يلاحظ أن القرن 13م/7ه شهد عدة حملات على مصر نظراً لاعتقاد الصليبيين أن الطريق لاسترداد بيت المقدس يبدأ من القاهرة.
أما الحملة السادسة؛ فقد شارك فيها الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني الذي كان صديقاً للملك الكامل الأيوبي وقد أتفق معه عام 1229م على إتفاقية يافا التي على أساسها قدم القدس للصليبين على طبق من ذهب، وتنازل عن عدة مناطق أستردها المسلمون بدماء الشهداء عقب معركة حطين الحاسمة عام 1187م؛ ولا ريب في أن ذلك عد كارثة قام بها ذلك السلطان الأيوبي الذي لم يستفد من درس التاريخ، وفرط في القدس التي عادت إلى المسلمون بعد صراع طويل مع الأعداء.
على أية حال؛ في عام 1244م؛ حدثت معركة غزة الثانية وعلى أثرها دخل الخوارزمية بيت المقدس وتمكنوا من استردادها من أيدي الصليبيين.
وفيما بعد حدثت الصليبية السابعة التي قادها الملك الفرنسي لويس التاسع الذي هاجم مصر من أجل أن تكون قاعدة للانطلاق صوب بيت المقدس، ولكن تعرض لهزيمة قاسية في فارسكور عام 1250م، وتم أسره في دار القاضي ابن لقمان بمصر.
وفيما بعد؛ تم فك أسره بعد أن دفع فدية كبيرة من المال، ولا يزال دار أبن لقمان يعد متحفاً في المنصورة بمصر دليلاً على هزيمة ذلك الملك الذي أراد دعم نفوذ أسرة آل كابيه الفرنسية على حساب أملاك المسلمين.
وفي عام 1270م؛ وبعد عشرين عاماً من الهزيمة على أرض مصر حركت لويس التاسع أحلام الفارس القديم، فأتجه إلى مهاجمة تونس ظناً منه أن حاكمها المستنصر الحفصي من الممكن أن يتنصر، ولكن العكس كان صحيحاً إذ قاوم ذلك السلطان ومعه أبناء تونس مقاومة بطولية أقرت بها الحوليات الصليبية مثل حولية بريما
Chronique De Prima
وأثبتت قيام أهل تونس بمهاجمة مواقع قوات الاحتلال الصليبية، وفي نهاية المطاف مات لويس التاسع في يوم 25 أغسطس 1270م من جراء وباء أنتشر في صفوف جنوده، وأنسحب الغزاة بعد أتفاق سلمي بينهم وبين التوانسه.
على أية حال؛ ظل الصليبيون في المنطقة، ولكن حرص المماليك بعد الأيوبيين على طردهم نهائياً وقد قام ثلاثة من سلاطين المماليك بدور بارز من أجل طرد بقايا الوجود الصليبي، وهم:-
-الظاهر بيبرس المؤسس الفعلي لدولة سلاطين المماليك في مصر، وقد قاد المسلمين نحو إسقاط إمارة أنطاكية وذلك عام 1268م/666ه.
-المنصور قلاوون الذي قاد المسلمين نحو إسقاط إمارة طرابلس الصليبية عام 1289م/688ه وهي آخر إمارة صليبية تسقط في قبضة المسلمين.
-الأشرف خليل بن قلاوون الذي قام بحصار عكا آخر المعاقل الصليبية الكبرى، وبالفعل أستطاع المسلمون إسقاطها وذلك عام 1291م/690ه.
وبالتالي أنتهى الوجود الصليبي في بلاد الشام وأثبتت بلاد الشام قدرتها على الأمتصاص، والفلتره، واللفظ، وانتقل الغزاة إلى جزر البحر المتوسط مثل قبرص، ورودس، ومالطة، واستقروا بها بعد خروجهم من المنطقة العربية، وان لم تتوقف أطماعهم وهجماتهم بل استمرت بين الحين والآخر.
علينا أن نحلق تحليق الصقر الذي يرصد وقائع التاريخ من أعلى لكي يدرك الحصاد الختامي لتلك التجربة المريرة التي شكلت مرحلة مهمة في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى ويمكن القول إن تجربة الحروب الصليبية تثبت لنا عدة دروس يمكن الإستفادة منها وهي كالأتي:
أولاً:إن ضعف المسلمين في أخريات القرن 11م/5ه ثم التناحر بين الخلافة العباسية السنية، والدولة الفاطمية الشيعية أوجد فراغاً سياسياً، سهل للغزاة الصليبيين أن ينجحوا في هزيمة المسلمين وبالتالي يكون المسلمون قدموا الفرصة السانحة لأعدائهم من أجل غرس كيانهم الدخيل في المنطقة.
ثانياً:تأكد لنا منطق التاريخ الذي ما أنحرف يوماً، وهو أن الحركات التاريخية الكبرى المتحضرة هي التي تبقى أما تلك التي قامت على التعصب، والدماء، والجماجم فإنها لا تستمر، وهو أمر لاحظناه بجلاء في الكيان الصليبي الذي مكث في المنطقة 200 عاماً تقريباً وفي النهاية كان مصيره الفشل.
ثالثاً:كان الجهاد الإسلامي هو الملاذ بالنسبة للمسلمين وقد ألتفوا حول القادة الذين دافعوا عن أمتهم مثل عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس وغيرهم ، ومن المهم الإقرار بأن التاريخ لا يصنعه عدد قليل من القادة فقط، بل أن الشعوب تلتف حولهم من أجل صنع تاريخها، ومن الخطأ البين تصور أن الأمر مرتبط فقط بتلك القيادات وحدها كما حاول بعض المستشرقين تصويره بل أن الشعوب الإسلامية نفسها شاركت مشاركة أساسية في صنع تلك الإنتصارات.
رابعاً:على الرغم من أن الصليبيين حاولوا القضاء على هوية المنطقة الدينية واللغوية؛ إلا أنهم أخفقوا في ذلك، وظلت محتفظة بالإسلام كدين واللغة العربية، على نحو يثبت لنا أن تلك الزاوية كانت-وبحق-عنصراً أساسياً في مواجهه مخططات الصليبيين ويضاف إلى ذلك -بطبيعة الحال-استبسال شعوبها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الغزو الأوروبي للمنطقة الذي لم يكن يهدف فقط إلى السلب والنهب بل الاستقرار الدائم على حساب الشعوب الأصلية صاحبة الأرض، ولا نغفل عنصر مهم أدى إلى فشل الحركة صليبية في صورة ضعف الروح الصليبية في الغرب الأوروبي مقارنة بما كان عليه الوضع في أخريات القرن 11م/5ه، ثم أن دول الغرب الأوروبي انهمكت في مشكلاتها الداخلية على نحو جعلها لا تتفرغ تماماً لدعم الصليبيين في بلاد الشام الذين وقعوا فريسة لصراعاتهم الداخلية على نحو أضعفهم في وقت كانت فيه حركة الجهاد الإسلامي في مرحلة متقدمة من النضج والرغبة في تحقيق إنجازات تاريخية.
خامساً:من الملاحظ أن الحروب الصليبية كانت بمثابة المعبر الذي عبرت من خلاله الحضارة العربية الإسلامية إلى الغرب الأوروبي، مع عدم إغفال معبرين آخرين في صورة صقلية وجنوبي إيطاليا، والأندلس ومن المهم إدراك أن الصليبيين في بداية الأمر انتصروا على المسلمين عسكرياً، لكن بعد أن أنقشع غبار المعارك لاحظنا أنهم هزموا حضارياً إذ تفوق المسلمون عليهم في المستوى الحضاري وهو أمر أتضح بجلاء من خلال كتابات المؤرخين المعاصرين سواءً من المسلمين أو الصليبيين.
ولا نغفل أن تلك الحروب استفادت منها أوروبا أكثر مما أستفاد منها المسلمون، ومن بعد انتهائها في بلاد الشام، بدأت أوروبا في الانتقال على أعتاب عصر تاريخي جديد في صورة العصر الحديث، وهكذا كان القرنان 12،13م/6،7ه مرحلة حاسمة في تطور أوروبا حضارياً بصورة غير مسبوقة.
ملحوظة: عن الحروب الصليبية أنظر:
أبن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق.
أبن الأثير، الكامل في التاريخ.
أبو شامة، الروضتين في تاريخ الدولتين.
أبن واصل، مفرج الكروب في تاريخ بني أيوب.
أبن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية.
أبو الفدا، المختصر في أخبار البشر.
أبن عبد الظاهر، الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر.
بيبرس الدواداري، زبدة الفكرة من تاريخ الهجرة.
William Of Tyre, A History Of Deeds Done Beyond The sea.
إرنست باركر، الحروب الصليبية.
رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية.
سعيد عاشور، الحركة الصليبية.
قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية
علية الجنزوري، أمارة الرها الصليبية.
السيد الباز العريني، الشرق الأوسط والحروب الصليبية.
محمد مؤنس عوض:
1- الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب.
2- فصول ببليوغرافية في تاريخ الحروب الصليبية.
3- الزلازل في بلاد الشام عصر الحروب الصليبية.
4- الجغرافيون والرحالة المسلمون في بلاد الشام زمن الحروب الصليبية.
5- الرحالة الأوروبيون في مملكة بيت المقدس الصليبية1099-1187م.
6- الرحالة الأوروبيون في العصور الوسطى.
7- عالم الحروب الصليبية بحوث ودراسات.
8- في الصراع الإسلامي الصليبي السياسة الخارجية للدولة النورية.
9- في الصراع الإسلامي الصليبي معركة أرسوف 1191م.
10- الحروب الصليبية السياسة-المياة-العقيدة.
11- سندباد في عصر الحروب الصليبية.
12- الحروب الصليبية بحوث تاريخية ونقدية.
13- أغارات أسراب الجراد في بلاد الشام عصر الحروب الصليبية.
14- الحروب الصليبية دراسات تاريخية ونقدية.
15- الحروب الصليبية لسيتون وبولدون ترجمة وتحرير بالأشتراك مع د.سعيد البيشاوي.
16- الظاهر بيبرس مؤسس دولة سلاطين المماليك في مصر.
17- من رحالة الشرق والغرب في العصور الوسطى.
18- من أعلام الطب في العصور الوسطى.
19- القلاع الصليبية في العصور الوسطى.
20- الحروب الصليبية التنظيمات الدينية الإسلامية والمسيحية في مملكة بيت المقدس الصليبية.
21- العلاقات بين الشرق والغرب (العصور الوسطى) لتكريم أ.د.أسحق عبيد.( تحرير).
(يستفيد المؤلف من أية ملاحظات نقدية على المؤلفات السابقة) ودائماً يردد قوله تعالى "وفوق كل ذي علم عليم" صدق الله العظيم.