مدينـة منــف القديمـة في العصـر المسـيحي
الحلقة الرابعة
ولا يزال -حتى الآن- ذلك المنفي الأخير المعروف لدينا (الأنبا ثيوفيلس) البابا السكندري الـ 23 ضمن باباوات كرسي الكرازة المرقسية مثاراً للجدل، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من الآباء المصريين. فبعض المؤرخون يحلو لهم أن يصفوه بأنه فرعون متجبّر، جعل من كلماته الدستور الذي يجب أن ينحني أمامه الشعب بأسره. بينما يمتدحه آخرون ويثنون على حسن إدارته وسرعة إدراكه للحقائق. وهناك مؤرخون يكيلون له المديح والذم في آنٍ واحد. فالأب/ بول دورليان الراهب الكاثوليكي، يُسهب في طعن الأنبا ثيوفيلس، وينتهي طعنه بقوله:
" ومقابل هذه المساوئ، نرى في الأنبا ثيوفيلس مزايا عجيبة يحسده عليها الناس، فقد كان عالماً متضلعاً في العلوم، ذا إيمان راسخ لا يحيد، وحزم عجيب في الإدارة، ونشاط لا ينضب له معين، وسلوك متكامل ".
ثم يردف الأب بول دورليان هذا الوصف بقوله:
" ولئن اضطرب فيه بعض الناس، مما بدا في سلوك الأنبا ثيوفيلس من تناقض، فليذكروا أنه ما من إنسان -مهما علت منزلته- معصوم من الخطأ. وأنه إن كان الأنبا ثيوفيلس قد أخطأ كثيراً، فقد أحب كثيراً، لأنه كان يعلن توبته حالما يُدرك خطأه، ويحاول أن يكفر عن هذا الخطأ بكل قواه " بند 469.
وما يؤكد ذلك، أن حياة البابا ثيوفيلس قد انتهت في سكينة وهدوء. ثم انطفأت تدريجياً انطفاء الشموع الموقدة التي تظل مُضيئة إلى أن تذوب وتتلاشى. وبينما كان يعالج سكرات الموت ردد هذه العبارة: " ما أسعدك يا أرسانيوس ؛ فقد وضعت هذه الساعة نصب عينيك دوماً ". وقد أبدى البابا السكندري الجليل (المنفي الأصل) في هذه الساعة الرهيبة أسفه لما أصاب يوحنا ذهبي الفم من مرارة النفي. وقد احترمت الكنيسة هذا التقليد، فنظمت في صفوف القديسين، كُلاً من الحبرين المنفي/السكندري "ثيوفيلس" ، والقسطنطيني "يوحنا ذهبي الفم". وفي هذا المعنى قال الأسقف افتيميوس صيفي: " إن الأنبا ثيوفيلس مات قديسـاً والكنيسـة الجامعة تعدّهُ من بين معلميها " بند 470.
هكذا كان أخر منفي معروفة حياته بأكملها لدينا هو ثيوفيلس الذي أصبح البابا الـ23 من باباوات الإسكندرية، والذي جعل العالم الشرقي البيزنطي يدور في فلكه، فجعل أسقف القسطنطينية العاصمة الإمبراطورية يهتم به، وبأمره مع أوريجانوس والأخوة الطوال، بل أكثر من ذلك فلقد ذهب مجرماً إلى القسطنطينية، وأصبح هناك قاضياً ورئيساً للمجمع المسكوني الثاني في المسيحية (مجمع القسطنطينية عام 381م). وأقام علاقات حسنة مع أساقفة المدن الخمس الغربية. بل ونشر العقيدة المسيحية في كافة الربوع المصرية. وأكثر من ذلك كان سبباً في استصدار أمراً إمبراطورياً من ثيودسيوس الأول، كان هو السبب في دمار مدينته الزاهرة منف. فأحالها هذا الأمر الذي استصدره البابا السكندري ثيوفيلس عن دمار منف دون قصدٍ منه. وهكذا استمرت منف في العهد الروماني/البيزنطي مدينةً زاهرة وعامرة بمبانيها وبأبنائها الذين اعتلوا أعلى المناصب آنذاك، وهي المناصب الروحية/الدينية التي سيطرت على وجدان الشعب المصري ضد السلطة البيزنطية الحاكمة، وممثليها من موظفين مدنيين أو كنسيين. ولم يلحقها الدمار والخراب النهائي إلا في العصر البيزنطي؛ حيث أُجهِضت تماماً بفعل المسيحيين الذين أخذوا يخربون فيها بدافع إيمانهم التوحيدي، وبدافع الالتجاء لمبانيها كمخابئ من بطش السلطة الرومانية الباطشة بهم في فترات الاضطهادات، وأيضاً بفعل القرار الإمبراطوري لثيودوسيوس الكبير-الأول (379-395م) الذي أمر بإغلاق معابدها، وضم أراضيها المقدسة لملكية الدولة.
هنا نرى كيف أن للديانة المنفية بآلهتها ومعابدها وكهنتها في العصور التاريخية المصرية القديمة أو البطلمية، ثم فيما بعد انتشار المسيحية بين قاطنيها وطبقاتها، وخروج العديد من الشخصيات التي قادت الكنيسة المصرية (القبطية) الأرثوذكسية سواء كان باعتلائهم كرسي الكرازة السكندرية المرقسية أو بكونهم أعلام كنسية وكوادر لاهوتية لها السطوة واليد العليا طوال التاريخ في الحفاظ على المدينة، ولولاها لانهارت المدينة منذ زمنٍ بعيد، وبالفعل بمجرد أن نُفِذَ أمر الإمبراطور ثيودسيوس، حتى رأينا المدينة تأفل، وتضمحل -وإن لم يكن ذلك قصد البابا السكندري ثيوفيلس اليتيم المنفي عندما استصدر من الإمبراطور هذا الأمر، فهو ينتمي للمدينة ومن المحال في تلك الفترة أن يضرّ إنسان بمدينته ويخربها حيث الانتماء في العصور القديمة كان للمدينة التي يولد وينشأ فيها- . ولقد انتهت تماماً في العصر الإسلامي مع بناء العواصم الإسلامية الجديدة بالقرب من المدينة، مما حوّلها إلى محجر لبناء لتلك العواصم الجديدة. في مقابل ذلك تستمر مدينة الإسكندرية شامخةً حتى وقتنا الحاضر.