تمهيد
إرهاصات الإصلاح الديني في أوربا- الجزء الثالث
نشأة روح العلمنة * :
* المقصود بالعلمنة ( L’esprit Laïque ) فصل الدين عن الدولة.
صعود الملكيات القومية
إن صراع البابوات مع الأباطرة الألمان في الماضي ، أدّى إلى ضعف الإمبراطور . وفي الفترة بين مُلكَين (1254-1273) ، لم يعد هناك إمبراطوراً . لكن الفائدة التي جنتها البابوية كانت ظاهرية هشة فقط. فقد أساء الباباوات استعمال الأسلحة الروحية كالحِرم لغايات زمنية. ومن جهة أخرى استفادت المَلَكيّات الغربية من انحطاط الإمبراطورية ، فثبّتت المَلَكيّات موقفها باستخدام الحق الإقطاعي لصالحها. فوسّع ملوك فرنسا أراضيهم شيئاً فشيئاً ، شأن مملكة إنجلترا . أما ممالك إسبانيا ؛ فقد أعادت الحكم المسيحي إلى ديارها بعد أن طردت العرب الفاتحين. واكتمل التحرير ، بالاستيلاء على غرناطة في 1492 ، ومن ثم توحدت إسبانيا. فأصبحت تلك الممالك الغربية كُلها ، شيئاً فشيئاً ، دولاً بمعنى الكلمة العصري ، بتنظيم نواة غدارة مركزية ، من مالية وعدل . ولما ازدادت قدرتها ، تصادمت فيما بينها في النزاعات القومية الأولى ؛ كحرب المائة عام (1337-1453) بين فرنسا وإنجلترا . وفي الوقت نفسه ، أرادت تلك المَلَكيّات أن تثبِّت وتوسِّع سلطتها ، فاصطدمت في الطريق بسلطة البابا ، فكان ذلك مصدراً جديداً للنزاعات.
إن تلك الفترة المقبلين على دراستها هي البداية الحقيقية والفعلية لحركة الإصلاح الديني في أوربا ، فلقد مهدت وعن حق لحركة المعارضة البروتستانتية في القرن السادس عشر ، لهذا التحولات الغريبة التي مررنا عليها سريعاً عبر صفحات هذا الفصل التمهيدي توضح لنا أن القرون الوسطى من القرنين الثاني عشر والثالث عشر قد مهدت لنظيرتها المتأخرة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر .
فنحن نلحظ مما سبق روح عامة تسير في المجتمع الأوربي نحو الانقلاب والتغيير ، فهناك تلك التغيرات الشعبية ، وتلك الروح القانونية التي بدأت تطفو على السطح ، ناهيك عن ظهور روح القوميات والوطنيات الكارهة لسيطرة الكنيسة واستنزافها لمواردها المالية ، كل ذلك حدث في إطار نهضة علمية وإنسانية في ذلك العصر المسمى بعصر الإنسانيات وعصر النهضة . مع فساد كبير داخل الكنيسة يبرزه الانشقاق العظيم المعروف بالأسر البابلي الثاني أو الأسر البابوي .
وأخيراً يطرح المؤرخ روبرت كنجدون تساؤلاً أمام كل هذا .. هل كانت حركة الإصلاح الديني ثورة اجتماعية سياسية حقاً ، أم أنها لم تزد عن مجرد كونها فورة وتمرد على المذهب اللاهوتي والممارسة الدينية ؟
ففي معظم المدن والأقاليم التي حقق فيها الإصلاح غايته ، بدا وكأنه لم يحدث تأثيراً عميقاً على تكوين الصفوة الدنيوية الحاكمة ، كما أنه لم يغير أوضاع البناء الاجتماعي تغييراً جذرياً . فلم يتبدل حال من كانوا ينعمون بالثراء ومن كانوا يعانون من الفقر . على أننا عندما نتذاكر أن إكليروس روما كانوا أيضاً فئة حاكمة قوية ، فإننا سندرك بوضوح – والكلام هنا على لسان روبرت كنجدون – الطبيعة الثورية لحركة الإصلاح .
ولكن لا يمكنا أن نأخذ تلك الآراء المسبقة في بداية ولوجنا لهذه الدراسة ، حتى نحافظ على رؤيتنا الموضوعية للأحداث ، ولهذا سنعبر على صفحات تلك الدراسة مؤملين أن ننال بصيصاً من النور يهدينا إلى جانباً من الحقيقة المتوارية وراء كل هذا الزخم من الأحداث والأشخاص والأسماء والمواقع والأفكار والصراعات . لكي نصل إلى ما يرضي ضميرنا البحثي والعلمي دون الميل لأي من الأطراف على طوال الخط بل اتخاذ الموضوعية منهاجاً نميل إلى من يكون الصواب في جانبه ، لا يمنعنا بعدها بقليل أن نميل إلى الطرف الآخر إذا حوت جعبته بعضاً آخر من الصواب.