القدس في السياسة الصهيونية بعد الاحتلال
الحلقة الثانية
"من قطرة ماء إلى إعصار مدمر" تحول التواجد اليهودي في القدس منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وقبل هذا التاريخ كانت "حارة اليهود" في القدس هي الموضع الوحيد من بقاع المدينة المقدسة الذي يسكنه يهود، وحتى الدُّور التي كانوا يسكنون فيها لم تكن في أغلبها مملوكة لهم، بل كانت مستأجرة من العرب ومن الأوقاف الإسلامية.
وكان لابد مع نمو الآمال اليهودية في إقامة دولتهم من الدفع بدماء يهودية غزيرة إلى القدس وعموم فلسطين ؛ لتحقيق غلبة سكانية لصالحهم، وبدت القدس موضعا جذابا لليهود طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، غير أن الانتداب البريطاني على فلسطين أتاح فرصة ذهبية للحركة الصهيونية لتحقيق غلبة ساحقة في نسبة السكان المقدسيين لصالح اليهود، فتدفقوا على القدس وفلسطين بنسب كبيرة، حتى إذا جاء موعد إقامة الدولة العبرية وجدوا حاجتهم من الكثافة السكانية المناسبة لإقامتها، ففي القدس وحدها كان عدد اليهود عند إعلان قيام إسرائيل عام 1948م أكثر من تسعة وتسعين ألفا.
وعقب احتلال القدس الشرقية في حرب 1967م نشطت عملية التهويد السكاني للقدس، والأرقام تؤكد هذه الحقيقة، وإن كان التواجد العربي يقاوم هذا التهويد، بما يتمتع به العرب المقدسيون من ارتفاع في نسبة مواليدهم، ففي عام 1967م ـ عقب الحرب ـ بلغت نسبة التواجد اليهودي في عموم القدس 74.2%، وبلغت نسبة العرب 25.8% من بين حوالي مائتين وسبعين ألف نسمة. وفي عام 1975م بلغت النسبة العربية 27%، وازدادت فيما بعد حتى حققوا 29.1 % عام 1995م من بين حوالي خمسمائة وأربعة وثمانين ألف نسمة.
وارتبط التهويد السكاني للقدس عن طريق زيادة عدد اليهود بمحاولات نشطة لتقليل عدد العرب المقدسيين بوسائل كثيرة، مثل التهجير، وسلب بطاقات الهوية، وإعطاء الجنسية الإسرائيلية للعرب.
تهويد القدس بتغيير حدودها البلدية:
حين بدت القدس القديمة في العصر الحديث أقل قدرة على استيعاب مزيد من السكان، نشطت حركة البناء خارج سور المدينة المقدسة في كل الجهات وشهدت الجهة الغربية أكبر حركة بناء وأكثرها نظامًا وتخطيطا، وهي الجهة التي بنى فيها اليهود أغلب مستوطناتهم، حتى أصبحت هناك قدس غربية (أغلب سكانها من اليهود) وقدس شرقية (أغلب سكانها من العرب).
وفي العهد البريطاني ركز رسم الحدود البلدية للقدس على الاتساع في الجهة التي تضم تواجدًا يهوديا كثيفا، فامتد الخط إلى الغرب عدة كيلو مترات، أما في الجنوب والشرق فلم يتجاوز الامتداد بضع مئات من الأمتار، ووقف خط الحدود البلدية على أبواب قرى عربية كبيرة تلاصق القدس دون أن يضمها إلى المدينة العتيقة، وهي قرى:
الطور، وشعفاط، ولفتا، ودير ياسين، وسلوان، والعيسوية، وعين كارم، والمالحة، وبيت صفافا.
وفي سنة 1921م أُجري ترسيم للحدود البلدية للقدس، فأصبحت تضم القدس القديمة، وأحياء باب الساهرة ووادي الجوز والشيخ جراح من الجهة الشمالية، وقطاعا عرضه أربعمائة متر على طول الجهة الشرقية لسور المدينة، كما ضمت الحدود البلدية للقدس ما سُمي بالقدس الغربية التي حوت أغلبية سكانية ساحقة من اليهود ومثلت مساحةً هي أضعاف مساحات المدينة القديمة، وفي المقابل انتهت الحدود البلدية للقدس من الجنوب عند سور المدينة فقط.
وفي عام 1946م، قبيل رحيل البريطانيين وإلغاء انتدابهم على فلسطين، خُطِّطت الحدود البلدية للقدس من جديد، فاستوعبت الأحياء اليهودية الجديدة في الجانب الغربي، وقرية سلوان في الجنوب، كما استوعبت وادي الجوز، ومع هذا التخطيط صارت الأحياء الجديدة والبناء خارج سور القدس يزيد في مساحته على مساحة القدس القديمة بأكثر من عشرين ضعفا، حيث زادت المساحة الكلية للقدس على تسعة عشر ألف دونم (الدونم 1000م2).
وعقب الاحتلال الصهيوني الكامل للقدس في حرب يونيه نشطت حركة التهويد في المدينة عن طريق التلاعب بحدودها البلدية، وظهرت مخططات ما سمي بـ" القدس الكبرى" التي تتسع معها المدينة اتساعًا كبيرًا، حتى تَغرق المعالم والملامح الإسلامية هناك في بحر من التواجد السكاني والعمراني لليهود.
الحلقة القادمة
سياسة انتزاع ملكية الأراضي من العرب