القدس في السياسة الصهيونية بعد الاحتلال
الحلقة الأخيرة
تهويد القدس بانتزاع ملكية الأرض من العرب:لكي تهوِّد إسرائيل القدس قامت بحركة محمومة من أعمال الاستيطان فيها قبل أن يقوم الكيان العبري وحتى الآن، ولكي توجِدَ إسرائيل لمستوطناتها أرضا تُقيمها عليها، كان لابد من التعدي على ممتلكات العـرب التابعة للسكان أو للأوقاف الإسلامية.
وقد نشطت مصادرة الصهاينة لأرض العرب عقب حرب يونيه، فبدأوا بمصادرة مائة وستة عشر دونما (الدونم 1000م2) لبناء الحي اليهودي الذي اتسعت مساحته من خمسة دونمات (أي خمسة آلاف متر مربع) إلى مائة وثلاثين دونما.
وفي عام 1968م صادرت السلطات الصهيونية من مناطق القدس الواقعة خارج السور 3345 دونما، تتبع حي الشيخ جراح ووادي الجوز وأرض السمار، واستمر المسلسل الإسرائيلي لمصادرة أرض العرب في القدس وفلسطين، حتى بلغ ما انتزعه الصهاينة من الأرض العربية في القدس منذ حرب يونيه حتى عام 1994م ـ ثلاثة وعشرين ألف دونم، إضافة إلى عقارات أربعة أحياء عربية كاملة تقع داخل السور، وهدم أكثر من سبعمائة عقار عربي. وصار ما تملكه إسرائيل في القدس الشرقية يمثل حوالي 74% من مساحتها، بعد أن كانت لا تملك من المدينة شيئا، ووصلت نسبة ما استولت عليه إسرائيل من مساحة القدس الكلية إلى 40%.
ويُضاف إلى هذا الأرضُ العربية المصادَرة التي تنوي إسرائيل أن تقيم عليها مستوطنات جديدة في المستقبل، وأهمها مستوطنة جبل أبو غنيم ؛ لتسيطر إسرائيل على الشارع الواصل بين القدس وبيت لحم، ومستوطنة حي رأس العمود لتَحُولَ دون إقامة ممر يصل بين أريحا وبين منطقة الحرم الشريف.
ولم يقتصر انتزاع أرض العرب المقدسيين على أخذها مباشرة من يـد أصحابها، فحاولت السلطات الإسرائيلية رسم "خرائط هيكلية" لمناطق القدس، تقدم خِططًا لمستقبل المدينة، مركِّزةً على تنمية العمران والبناء في المناطق اليهودية، وإضعافِه في مراكز التجمع العربي من القدس، مع انتزاع ما تراه خادما لهذه "الخرائط الهيكلية" من يد العرب، بزعم أنه يخدم أهدافا عامة، ثم بناء المستوطنات اليهودية هناك. ومن أمثلة ذلك أن السلطات الإسرائيلية في سنة 1970م انتزعت من العرب في قرية شعفاط ألفًا وثلثمائة وثمانية وتسعين دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع)، وزرعتها أشجارًا، ثم عادت في سنة 1991م وقطعت هذه الأشجار، وزرعت مكانها مستوطنة جديدة سمتها "ريخس شعفاط" وعبأتها باليهود المتديّنين.
تهويد القدس بتهجير سكانها العرب:
في خطين متوازيين سارت الخِطط الإسرائيلية لتهويد القدس: بزيادة التواجد اليهودي وإضعاف التواجد العربي هناك، ومثلت الحروب فرصةً ذهبية أمام إسرائيل لطرد العرب من أرضهم وبيوتهم طردًا جماعيا، خاصة في حرب عام 56 وحرب 1967م اللتين طُرد فيهما من القدس وحدها حوالي مائة ألف فلسطيني، من حي المغاربة وحي الشرفا وحي النصارى والمناطق المجاورة لباب الجديد وباب الخليل ومن حي الأرمن وغيرها.
وفي نهايات يوليو من هذا العام سمحت إسرائيل لبعض المهجَّرين من عموم فلسطين بالعودة إلى بيوتهم، لكن هذا القرار لم يشمل أحدًا من أهل القدس أو بيت لحم أو أريحا.
وركَّزت السلطات الصهيونية في أجواء الحروب وغيرها على الخلاص من القيادات الفلسطينية السياسية وأصحاب الكفايات العلمية، أملا في تفريغ الشعب الفلسطيني من الداخل من قوته الفاعلة، وكانت وسيلة الخلاص من هؤلاء هي التهجير والطرد خارج الوطن، ومن أمثال هؤلاء المهجَّرين روحي الخطيب ـ رئيس بلدية القدس قبل حرب يونيه ـ وعبد الحميد السائح.
وتفننت العقلية الصهيونية في اختراع الأساليب التي تستبعد بها عرب القدس من مدينتهم، وأهمها سحب الهويات الشخصية منهم، والتي تثبت أنهم مقدسيون، والحجة التي تتذرع بها السلطة الصهيونية هي أن هؤلاء لم يكونوا في القدس عند احتلال إسرائيل لها، أو أنهم يسكنون في مناطق خارج الحدود البلدية للقدس.
ويمثل سفر العربي من القدس إلى الخارج مشكلة كبيرة له قد تحرمه من العودة إلى داره، فالفلسطيني الذي يحمل رحاله للسفر إلى خارج وطنه ينال تصريحا بالخروج مدته بين عام وثلاثة أعوام، غير أنه قد يحرم من حق العودة عند إخفاقه في تمديد فترة تصريح السفر قبل انتهاء المدة المعطاة.
ويتعرض لخطر فقد حقه في الإقامة في القدس أيضًا هذا المسافرُ من أهلها العرب إلى الخارج لأكثر من سبع سنوات، وكذلك من له مقر إقامة خارج القدس.
تهويد القدس بتحجيم نمو المناطق العربية عمرانيا:
الانتقال بين أنحاء القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي لا يعطي للمتنقل انطباعًا واحدًا عن مدينة واحدة، بل يوحي بوجودٍ فعلي لمدينتين: إحداهما ترعاها دولة، وتخطط لها وزارات وهيئات، والأخرى تقيَّد حركة البناء فيها، وتُهمَل مرافقها وبنيتها الأساسية.
أما المدينة الأولى فهي مناطق القدس التي يسكنها اليهود، حيث الحركة دائبة للإعمار وإنشاء الوحدات السكنية، وإنفاقِ الاستثمارات الطائلة على البنية التحتية، من الطرق والحدائق العامة، وإضاءة الشوارع، وإنشاء المناطق الصناعية والتجارية.
وأما المدينة الثانية فهي مجموعة من الجيوب المعزولة، تعيش في فقر وعَوَز، وأكثر المنازل هناك من طابق واحد أو طابقين، وتختفي الأرصفة تحت الأقدام، وتتعسر الخطى وسط التراب المتراكم فوق الطرق، وتتطلع الأعين إلى أسماء الشوارع أو أرقام المنازل فتكاد لا تجد من ذلك شيئا، والمنازلُ المتصدعة تكاد تتهاوى دون أن يُسْمَح بترميمها.. وهذه هي حال الأحياء والمناطق العربية في القدس، مثل: سلوان، وشعفاط، وبيت حنينا وغيرها من الأحياء التي تضم حوالي مائة وسبعين ألف مقدسي عربي، منهم واحد وعشرون ألف أسرة لا تجد لها سكنا، بل لا يجد البعض إذنا بإقامة مساكن وإن كانت لديه أرض يملكها !
كان من الطبيعي أن يلجأ الكثير من عرب القدس إلى البناء بغير تصريح من السلطات الإسرائيلية، وهو ما اعتبرته إسرائيل بناء غير قانوني، فكانت إجراءاتها أشد شراسة، حيث هدمت البيوت وأماكن الإيواء التي تضم الكثير من الأطفال والنساء، وصادرت الأرض التي أُقيمت عليها لصالح بناء مستوطنات عليها فيما بعد.
لقد زاد عدد الوحدات السكنية (الشقق) التي أقامتها إسرائيل في القدس لمواطنيها من اليهود على خمسة وسبعين ألف وحدة، ما بين عام 1967م ونهايات القرن العشرين، في حين لم يحظ العرب هناك بإذن لإقامة وحدات سكنية إلا عددًا قليلاً، لا يزيد على عشرة آلاف وحدة سكنية.
تهويد القدس بتغيير أسماء معالمها:
عقب احتلال الجيش الإسرائيلي للقدس الغربية في حرب عام 1948م والقدسِ الشرقية في حرب يونيه 1967م ـ شهدت المدينة بقسميها تغييرًا وصل إلى أعمق أعماقها، دون أن تكتفي اليد المحتلة بهدم الكثير من المباني العربية، وزرع المستوطنات وأعمدة الأسمنت في أنحاء المدينة، ومصادرة أرض العرب من يد أصحابها ـ بل امتدت الأعمال الإسرائيلية لتهويد القدس إلى وضع أسماء عبرية لأبواب المدينة وأحيائها وضواحيها وقراها، بدلا من أسمائها العربية.
الشيء الخطير في تغيير الأسماء العربية للقدس، هو أن الأسماء الجديدة صارت معتمدة رسميًّا، بحيث يتردد الاسم العبري في المخاطبات الرسمية الخاصة بالدولة العبرية، وفي وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ومن شأن هذا أن يكرس ويثبِّت الاسم العبري، وتنسى ذاكرة الزمان الاسم العربي القديم.
لقد حلت أسماء جفعات رم وغونين وجفعات حنينا ومورشا وعين هكرم ومنحات وكفار شاؤول وجفعات شاؤول وحي نفتوح ـ حلت هذه الأسماء على الترتيب محل الأسماء العربية المشرقة: الشيخ بدر والقطمون وأبو الطور والمصرارة وعين كارم والمالحة ودير ياسين وتل الغول ولفتا.
وأصبح باب الخليل يدعى شاعر (أي بوابة) يافو، وباب النبي داود شاعر تسيون، وباب ستنا مريم شاعر هئرويت، وأطلق على باب الجديد اسم شاعر هحداش، وعلى باب المغاربة شاعر هأشفا، وسمي باب الرحمة شاعر هرحميم، وباب العمود شكيم، وأما باب الساهرة فسُمي شاعر هورودس.
وزاد مسلسل تغيير الأسماء العربية والإسلامية في القدس، حتى طال الأماكن الإسلامية المقدسة، فالجزء المقام عليه المسجد الأقصى هو جبل الهيكل، وحائط البراق هـو حائط المبكى.
تهويد القدس بهدم الأبنية العربية:
بعد صمت المدافع والطائرات في حرب يونيه 1967م، شرعت الجرافات الإسرائيلية بصوتها العالي في تهديم الحي العربي المغربي لتُخْلِي الطريق أمام الحي اليهودي في القدس الشرقية إلى حائط البراق، الذي يسميه اليهود بحائط المبكى، ويقدسونه، فصار الحي العربي أثرًا بعد عين، ولم يتركوا أطلالا لِمَا تهدَّم كما تفعل الأيام، وإنما سووا الحي كله بالأرض !
وأُصيب الهادمون بسعار نحو المباني العربية، فنسفوا أربعا وعشرين دارًا عربية إلى جوار الحي المغربي، وانطلقوا إلى مناطق أخرى يسوُّونها بالأرض، ليحدثوا تغييرا يمسخ شخصية المدينة العربية الإسلامية.
ومنذ هذه اللحظة لم تتوقف أعمال الهدم الإسرائيلية لمنازل العرب بين فترة وأخرى، حتى أوشك الأمر أن يتحول إلى طقس من طقوس تهويد القدس، يزاوله الإسرائيليون كشعيرة دينية وقومية لهم ولدولتهم !
ويتصل مباشرة بهدم الأبنية العربية في القدس المحاولات الإسرائيلية الدءوب لهدم المسجد الأقصى، بحثا عن أساسات "هيكل سليمان"، وهو العمل الذي يُقصد به الوصول إلى ذروة التهويد وتمامه، لكن أعمال الحفر التي مضى عليها حوالي قرن ونصف القرن، منذ بدأتها البعثات الأثرية الغربية في منتصف القرن التاسع عشر، وواصلها الإسرائيليون فيما بعد ـ أثبتت أن وجود بني إسرائيل في القدس لم يكن سوى حلقة قصيرة من تاريخ المدينة المباركة، وأن أمما عديدة سكنت هناك، أقدمهم العرب الكنعانيون البناة الأُوَل لبيت المقدس.
انتهى بحمد الله